كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَرَوَى إبْرَاهِيمُ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ نَضْلَةَ الْخُزَاعِيِّ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: «أَنَّ امْرَأَتَيْنِ ضَرَبَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِعَمُودِ الْفُسْطَاطِ فَقَتَلْتهَا، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدِّيَةِ عَلَى عَصَبَةِ الْقَاتِلَةِ وَقَضَى فِيمَا فِي بَطْنِهَا بِالْغُرَّةِ».
وَرَوَى يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «اقْتَتَلَتْ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ فَضَرَبَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلْتهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ، وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا» فَفِي أَحَدِ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّهَا ضَرَبْتهَا بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ وَفِي الْآخَرِ أَنَّهَا ضَرَبَتْهَا بِحَجَرٍ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ نَشَدَ النَّاسَ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنِينِ، فَقَامَ حَمَلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةَ فَقَالَ: إنَّنِي كُنْت بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ لِي، وَإِنَّ إحْدَاهُمَا ضَرَبَتْ الْأُخْرَى بِمِسْطَحٍ فَقَتَلْتهَا وَجَنِينَهَا، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنِينِ بِغُرَّةٍ وَأَنْ تُقْتَلَ مَكَانَهَا».
وَرَوَى الْحَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ مِثْلَهُ؛ فَذَكَرَ أَبُو عَاصِمٍ وَالْحَجَّاجُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ الْمَرْأَةِ.
وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ هِشَامُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمَخْزُومِيُّ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ دِينَارٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ بِإِسْنَادِهِ، وَلَمْ يَذْكُرَا فِيهِ أَنَّهُ أَمَرَ أَنْ تُقْتَلَ، وَذَكَرَ أَبُو عَاصِمٍ وَالْحَجَّاجُ أَنَّهُ أَمَرَ أَنْ تُقْتَلَ الْمَرْأَةُ، فَاضْطَرَبَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ.
وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَرَجَمَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَأَصَابَ قَلْبَهَا وَهِيَ حَامِلٌ فَأَلْقَتْ جَنِينًا فَمَاتَتْ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلَةِ وَقَضَى فِي الْجَنِينِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ».
فَكَانَ حَدِيثُ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ فِي إيجَابِ الْقَوَدِ عَلَى الْمَرْأَةِ مُخْتَلِفًا مُتَضَادًّا؛ وَرُوِيَ فِي بَعْضِ أَخْبَارِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا الْقِصَاصُ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي بَعْضِهَا؛ قَالَ حَمَلُ بْنُ مَالِكٍ وَهُوَ صَاحِبُ الْقِصَّةِ: «إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَ الدِّيَةَ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلَةِ» فَتَضَادَّتْ الْأَخْبَارُ فِي قِصَّةِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ وَسَقَطَتْ وَبَقِيَ حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي نَفْيِ الْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا شِبْهُ الْعَمْدِ».
وَإِثْبَاتُ شِبْهِ الْعَمْدِ ضَرْبٌ مِنْ الْقَتْلِ دُونَ الْخَطَإِ فِيهِ اتِّفَاقُ السَّلَفِ عِنْدَنَا لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِيهِ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي كَيْفِيَّةِ شِبْهِ الْعَمْدِ؛ فَأَمَّا أَنْ يَقُولَ مَالِكٌ: «لَا أَعْرِفُ إلَّا خَطَأً أَوْ عَمْدًا» فَإِنَّ هَذَا قَوْلٌ خَارِجٌ عَنْ أَقَاوِيلِ السَّلَفِ كُلِّهِمْ.
وَرَوَى شَرِيكٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «شِبْهُ الْعَمْدِ بِالْعَصَا وَالْحَجَرِ الثَّقِيلِ وَلَيْسَ فِيهِمَا قَوَدٌ».
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: «يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ فَيَضْرِبُ أَخَاهُ بِمِثْلِ آكِلَةِ اللَّحْمِ وَهِيَ الْعَصَا ثُمَّ يَقُولُ لَا قَوَدَ عَلَيَّ لَا أُوتَى بِأَحَدٍ فَعَلَ ذَلِكَ إلَّا أَقَدْته»، فَكَانَ هَذَا عِنْدَهُ مِنْ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ يُقْتَلُ فِي الْغَالِبِ عَلَى مَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ.
وَمِمَّا يُبَيِّنُ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى شِبْهِ الْعَمْدِ وَأَنَّهُ قِسْمٌ ثَالِثٌ لَيْسَ بِعَمْدٍ مَحْضٍ وَلَا خَطَأٍ مَحْضٍ اخْتِلَافُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَسْنَانِ الْإِبِلِ فِي الْخَطَإِ، ثُمَّ اخْتِلَافُهُمْ فِي أَسْنَانِ شِبْهِ الْعَمْدِ وَأَنَّهَا أَغْلَظُ مِنْ الْخَطَإِ؛ مِنْهُمْ عَلِيٌّ وَعُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو مُوسَى وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، كُلُّ هَؤُلَاءِ أَثْبَتَ أَسْنَانَ الْإِبِلِ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ أَغْلَظُ مِنْهَا فِي الْخَطَإِ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ فَثَبَتَ بِذَلِكَ شِبْهُ الْعَمْدِ.
وَلَمَّا ثَبَتَ شِبْهُ الْعَمْدِ بِمَا قَدَّمْنَا مِنْ الْآثَارِ وَاتِّفَاقِ السَّلَفِ بَعْدَ اخْتِلَافٍ مِنْهُمْ فِي كَيْفِيَّتِهِ، احْتَجْنَا أَنَّ نَعْتَبِرَ شِبْهَ الْعَمْدِ، فَوَجَدْنَا عَلِيًّا قَالَ: «شِبْهُ الْعَمْدِ بِالْعَصَا وَالْحَجَرِ الْعَظِيمِ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ اسْمٌ شَرْعِيٌّ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهِ إلَّا مِنْ جِهَةِ التَّوْقِيفِ؛ إذْ لَيْسَ فِي اللُّغَةِ هَذَا الِاسْمُ لِضَرْبٍ مِنْ الْقَتْلِ؛ فَعَلِمْنَا أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يُسَمِّ الْقَتْلَ بِالْحَجَرِ الْعَظِيمِ شِبْهَ الْعَمْدِ إلَّا تَوْقِيفًا، وَلَمْ يَذْكُرْ الْحَجَرَ الْعَظِيمَ إلَّا وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ مُتَسَاوِيَانِ عِنْدَهُ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ بِهِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْمَعْمَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقِّيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيّ وَخَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ أَوْسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَتِيلُ خَطَإِ الْعَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا فِيهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ مِنْهَا أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا» فَقَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرُ مَعَانِيَ: مِنْهَا إثْبَاتُهُ قَتِيلَ خَطَإِ الْعَمْدِ قِسْمًا غَيْرَ الْعَمْدِ وَغَيْرَ الْخَطَإِ وَهُوَ شِبْهُ الْعَمْدِ، وَمِنْهَا إيجَابُهُ الدِّيَةَ فِي قَتِيلِ السَّوْطِ وَالْعَصَا مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ مَا يُقْتَلُ مِثْلُهُ وَبَيْنَ مَا لَا يُقْتَلُ مِثْلُهُ وَبَيْنَ مَنْ يُوَالِي الضَّرْبَ حَتَّى يَقْتُلَهُ وَبَيْنَ مَنْ يُقْتَلُ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمِنْهَا أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ السَّوْطِ وَالْعَصَا وَالسَّوْطُ لَا يَقْتُلُ مِثْلُهُ فِي الْغَالِبِ وَالْعَصَا يَقْتُلُ مِثْلُهَا فِي الْأَكْثَرِ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ مَا يَقْتُلُ وَبَيْنَ مَا لَا يَقْتُلُ.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْر قَالَ: حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ ابْنِ بِنْتِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ شَيْءٍ سِوَى الْحَدِيدَةِ خَطَأٌ وَلِكُلِّ خَطَأٍ أَرْشٌ».
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنُ سَهْلِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَسْكَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الضُّبَعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَشُعْبَةُ عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ عَنْ أَبِي عَازِبٍ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ شَيْءٍ خَطَأٌ إلَّا السَّيْفُ وَفِي كُلِّ خَطَأٍ أَرْشٌ».
وَأَيْضًا لَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَرَحَهُ بِسِكِّينٍ صَغِيرَةٍ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهَا وَحُكْمُ الْكَبِيرَةِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ الْحَجَرِ وَالْخَشَبِ فِي سُقُوطِهِ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ مُتَعَلِّقٌ بِالْآلَةِ، وَهِيَ أَنْ تَكُونَ سِلَاحًا أَوْ يَعْمَلُ عَمَلَ السِّلَاحِ.
فَإِنْ قِيلَ: عَلَى مَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَتِيلُ خَطَإِ الْعَمْدِ» أَنَّ الْعَمْدَ لَا يَكُونُ خَطَأً وَلَا الْخَطَأُ عَمْدًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْحَدِيثِ.
قِيلَ: لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ سَمَّاهُ خَطَأَ الْعَمْدِ لِأَنَّهُ خَطَأٌ فِي الْحُكْمِ عَمْدٌ فِي الْفِعْلِ، وَذَلِكَ مَعْنًى صَحِيحٌ لِأَنَّهُ دَلَّ بِهِ عَلَى التَّغْلِيظِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَمْدٌ وَعَلَى سُقُوطِ الْقَوَدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِي حُكْمِ الْخَطَإِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وَقَوْلُهُ: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وَسَائِرُ الْآيِ الَّتِي فِيهَا إيجَابُ الْقِصَاصِ يُوجِبُهُ عَلَى الْقَاتِلِ بِالْحَجَرِ الْعَظِيمِ.
قِيلَ لَهُ: لَا خِلَافَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إنَّمَا أَوْجَبَتْ الْقِصَاصَ فِي الْعَمْدِ، وَهَذَا لَيْسَ بِعَمْدٍ؛ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْآيَةَ وَرَدَتْ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ فِي الْأَصْلِ وَالْآثَارُ الَّتِي ذَكَرْنَا وَارِدَةٌ فِيمَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ لَا يُعْتَرَضُ بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ.
وَأَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ} وَسَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِبْهَ الْعَمْدِ قَتِيلَ خَطَإِ الْعَمْدِ، فَلَمَّا أَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الْخَطَإِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ فِيهِ الدِّيَةُ.
فَإِنْ احْتَجُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَتَيْنِ قَتَلَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِمِسْطَحٍ فَأَوْجَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا الْقِصَاصَ.
قِيلَ لَهُ: قَدْ بَيَّنَّا اضْطِرَابَ الْحَدِيثِ وَمَا عَارَضَهُ مِنْ رِوَايَةِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ فِي إيجَابِ الدِّيَةِ دُونَ الْقَوَدِ، وَلَوْ ثَبَتَ الْقَوَدُ أَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَيْسَ بِعُمُومٍ فِي جَمِيعِ مَنْ قُتِلَ بِمِسْطَحٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانَ فِيهِ حَدِيدٌ وَأَصَابَهَا الْحَدِيدُ دُونَ الْخَشَبِ، فَمِنْ أَجْلِهِ أَوْجَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ الْقَوَدَ.
فَإِنْ احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ «أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَخَ رَأْسَ جَارِيَةٍ بِالْحِجَارَةِ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُرْضَخَ رَأْسُهُ».
قِيلَ لَهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانَ لَهَا مَرْوَةَ، وَهِيَ الَّتِي لَهَا حَدٌّ يَعْمَلُ عَمَلَ السِّكِّينِ، فَلِذَلِكَ أَوْجَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلَهُ.
وَأَيْضًا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ يَهُودِيًّا قَتَلَ جَارِيَةً مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى حُلِيٍّ لَهَا وَأَلْقَاهَا فِي نَهْرٍ وَرَضَخَ رَأْسَهَا بِالْحِجَارَةِ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ حَتَّى يَمُوتَ، فَرُجِمَ حَتَّى مَاتَ».
وَلَا خِلَافَ أَنَّ الرَّجْمَ لَا يَجِبُ عَلَى وَجْهِ الْقَوَدِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْيَهُودِيُّ مُسْتَأْمَنًا فَقَتَلَ الْجَارِيَةَ وَلَحِقَ بِأَرْضِهِ فَأُخِذَ وَهُوَ حَرْبِيٌّ لِقُرْبِ مَنَازِلِهِمْ مِنْ الْمَدِينَةِ فَقَتَلَهُ عَلَى أَنَّهُ مُحَارَبٌ حَرْبِيٌّ وَرَجَمَهُ، كَمَا سَمَلَ أَعْيُنَ الْعُرَنِيِّينَ الَّذِينَ اسْتَاقُوا الْإِبِلَ وَقَتَلُوا الرَّاعِيَ وَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَتَرَكَهُمْ حَتَّى مَاتُوا، ثُمَّ نُسِخَ الْقَتْلُ عَلَى وَجْهِ الْمُثْلَةِ.
فصل:
وَأَمَّا مَا دُونَ النَّفْسِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شِبْهُ الْعَمْدِ مِنْ جِهَةِ الْآلَةِ، وَيَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ بِحَجَرٍ شَجَّهُ أَوْ بِحَدِيدٍ، وَفِيهِ شِبْهُ الْعَمْدِ مِنْ جِهَةِ التَّغْلِيظِ إذَا تَعَذَّرَ فِيهِ الْقِصَاصُ؛ وَإِنَّمَا لَمْ يَثْبُتْ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ شِبْهُ الْعَمْدِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} وَقَالَ: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ}، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ وُقُوعِهَا بِحَدِيدٍ أَوْ غَيْرِهِ.
وَالْأَثَرُ إنَّمَا وَرَدَ فِي إثْبَاتِ خَطَإِ الْعَمْدِ فِي الْقَتْلِ، وَذَلِكَ اسْمٌ شَرْعِيٌّ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ، وَلَمْ يَرِدْ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ تَوْقِيفٌ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ فِيهِ، وَأَثْبَتُوا فِيهِ التَّغْلِيظَ إذَا لَمْ يُمْكِنْ فِيهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ حِينَ كَانَ عَمْدًا فِي الْفِعْلِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ نَضَّرَ اللَّهُ وَجْهَهُ «أَنَّهُ قَضَى عَلَى قَتَادَةَ الْمُدْلِجِيِّ حِينَ حَذَفَ ابْنَهُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ بِمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ مُغَلَّظَةٌ»؛ حِينَ كَانَ عَمْدًا سَقَطَ فِيهِ الْقِصَاصُ، كَذَلِكَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إذَا كَانَ عَمْدًا قَدْ سَقَطَ فِيهِ الْقِصَاصُ إيجَابُ قِسْطِهِ مِنْ الدِّيَةِ مُغَلَّظًا؛ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ فِي الْجِرَاحَاتِ الَّتِي يُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهَا بِأَيِّ شَيْءٍ جَرَحَ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ذَكَرْنَا الْخَطَأَ وَشِبْهَ الْعَمْدِ وَبَيَّنَّا الْعَمْدَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ مَبْلَغُ الدِّيَةِ مِنْ الْإِبِلِ:
قَدْ تَوَاتَرَتْ الْآثَارُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِقْدَارِ الدِّيَةِ وَأَنَّهَا مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ، فَمِنْهَا حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ بِخَيْبَرَ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَاهُ بِمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ.
وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جَدْعَانَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ فَقَالَ: أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَإِ الْعَمْدِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا فِيهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةٌ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا».
وَفِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الَّذِي كَتَبَهُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَفِي النَّفْسِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ».
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ دِيَةَ الْخَطَإِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ» وَذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الْقُمِّيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ النُّمَيْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا غَالِبُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ قَيْسٍ النُّمَيْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي قُرَّةُ بْنُ دَعْمُوصٍ النُّمَيْرِيُّ قَالَ: «أَتَيْت أَنَا وَعَمِّي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي عِنْدَ هَذَا دِيَةَ أَبِي فَمُرْهُ أَنْ يُعْطِيَنِيهَا قَالَ: أَعْطِهِ دِيَةَ أَبِيهِ وَكَانَ قُتِلَ فِي الْجَاهِلَةِ، قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لِأُمِّي فِيهَا حَقٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ وَكَانَتْ دِيَتُهُ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ» فَقَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرُ أَحْكَامًا: مِنْهَا أَنَّ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ فِي الدِّيَةِ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ قُتِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.